كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: هذا لفظ الشكوى، فأين الصبر؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه شكا إِلى الله تعالى، لا مِنْهُ.
والثاني: أنه أراد به الدعاء، فالمعنى: يارب ارحم أسفي على يوسف.
وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب الأسف في اللفظ من المجاز الذي يُعنى به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه: يا إِلهي ارحم أسفي، أو أنت راءٍ أسفي، وهذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى في المعنى سواه، كما قال: {يا حسرتنا} والمعنى: يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا، قال: والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إِذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثِّم ولم يشكُ إِلا إِلى ربه فلما كان قوله: {يا أسفى} شكوى إِلى ربه، كان غير ملوم.
وقد روي عن الحسن أن أخاه مات، فجزع الحسن جزعًا شديدًا، فعوتب في ذلك، فقال: ما وجدت الله عاب على يعقوب الحزن حيث قال: {يا أسفى على يوسف}.
قوله تعالى: {وابيضت عيناه من الحزن} أي: انقلبت إِلى حال البياض.
وهل ذهب بصره، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد.
والثاني: ضعف بصره لبياضٍ تغشّاه من كثرة البكاء، ذكره الماوردي.
وقال مقاتل: لم يُبصر بعينيه ست سنين.
قال ابن عباس: وقوله: {من الحزن} أي: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه، فلما كان الحزن سببًا للبكاء، سمي البكاء حزنًا.
وقال ثابت البُناني: دخل جبريل على يوسف، فقال: أيها الملَك الكريم على ربه، هل لك علِم بيعقوب؟ قال: نعم.
قال: ما فعل، قال: ابيضت عيناه، قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد.
وقال الحسن البصري: ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنة، وما جفَّت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره.
قوله تعالى: {فهو كظيم} الكظيم بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره، قاله ابن قتيبة: وقد شرحنا هذا عند قوله: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134].
قوله تعالى: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} قال ابن الأنباري: معناه: والله، وجواب هذا القسم: {لا} المضمرة التي تأويلها: تالله لا تفتأ، فلما كان موضعها معلومًا خفف الكلام بسقوطها من ظاهره، كما تقول العرب: والله أقصدك أبدًا، يعنون: لا أقصدك، قال امرؤ القيس:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ** وَلَوْ قطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي

يريد: لا أبرح.
وقالت الخنساء:
فَأَقْسَمْتُ آسَى عَلَى هَالِكٍ ** أَو اسْأَلُ نَائِحَةً مَالَهَا

أرادت: لا آسى، وقال الآخر:
لَمْ يَشْعُرِ النَّعْشُ مَا عَلَيْهِ مِن ال ** عُرْفِ وَلاَ الحَامِلُونَ مَاحَمَلُوا

تاللهِ أَنْسَى مُصِيْبتي أَبَدًا ** مَا أَسْمَعَتْني حَنِيْنَها الإِبِلُ

وقرأ أبو عمران، وابن محيصن، وأبو حيوة: {قالوا بالله} بالباء، وكذلك كل قسم في القرآن.
وأما قوله: {تفتأ} فقال المفسرون وأهل اللغة: معنى: {تفتأ} تزال، فمعنى الكلام: لا تزال تذكر يوسف، وأنشد أبو عبيدة:
فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتدَّعي ** ويَلْحَقُ منها لاَحِقٌ وتقطَّعُ

وأنشد ابن القاسم:
فَمَا فَتِئَتْ مِنَّا رِعَالٌ كَأنَّها ** رِعَالٌ القَطَا حَتَّى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ

قوله تعالى: {حتى تكون حرضًا} فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه الدَّنِف، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
قال ابن قتيبة: يقال: أحرضه الحزن، أي: أدنفه.
قال أبو عبيدة: الحرض: الذي قد أذابه الحزن أو الحُب، وهي في موضع مُحْرَض.
وأنشد:
إِني امرؤٌ لجَّ بي حُبٌّ فَأَحْرَضَنِي ** حَتى بَلِيتُ وحَتَى شفَّني السَّقَم

أي: أذابني.
وقال الزجاج: الحرض: الفاسد في جسمه، والمعنى: حتى تكون مدنفًا مريضًا.
والثاني: أنه الذاهب العقل، قاله الضحاك عن ابن عباس.
وقال ابن إِسحاق: الفاسد العقل.
قال الزجاج: وقد يكون الحرض: الفاسد في أخلاقه.
والثالث: أنه الفاسد في جسمه وعقله، يقال: رجل حارض وحرض، فحارض، يثنَّي ويُجمع ويُؤنث، وحرض لا يُجمع ولا يثنَّى، لأنه مصدر، قاله الفراء.
والرابع: أنه الهرم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله تعالى: {أو تكون من الهالكين} يعنون: الموتى.
فإن قيل: كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير؟
فالجواب: أن في الكلام إِضمارًا، تقديره: إِن هذا في تقديرنا وظننا.
قوله تعالى: {إِنما أشكو بَثِّي} قال ابن قتيبة: البثُّ: أشد الحزن، سمي بذلك، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثَّه.
قوله تعالى: {إِلى الله} المعنى: إِني لا أشكو إِليكم، وذلك لما عنَّفوه بما تقدم ذِكره.
وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخٍ، فقال له ذات: يوم يا يعقوب، مالذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوَّس ظهرك؟ قال: أمَّا الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوَّس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب إِن الله يقرئك السلام ويقول لك، أما تستحي أن تشكو إِلى غيري؟ فقال: إِنما أشكو بثّي وحزني إِلى الله، فقال جبريل: الله أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبتَ بصري، وقوَّستَ ظهري، فاردد عليَّ ريحاني أشمه شمَّة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب، إِن الله يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعامًا للمساكين، فإن أحب عبادي إِليّ، المساكين، وتدري لم أذهبتُ بصرك، وقوّست ظهرك، وصنع إِخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها.
فكان يعقوب بعد ذلك إِذا أراد الغداء أمر مناديًا فنادى: ألا مَن أراد الغداء من المساكين فليتغدَّ مع يعقوب، وإِذا كان صائمًا، أمر مناديًا فنادى: من كان صائمًا فليُفطر مع يعقوب»
.
وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا، قال: لأنك شويت عناقًا وقتَّرت على جارك وأكلت ولم تطعمه.
وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها، وهي تخور، فلم يرحمها.
فإن قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكًا؟
فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر الله تعالى، وهو الأظهر.
والثاني: لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله، شدة فاقتهم.
والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرِّج نفسه إِلى كمال السرور.
والصحيح أن ذلك كان عن أمر الله تعالى، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء.
وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيمًا، ولا يقدر على دفع سببه.
قوله تعالى: {وأعلم من الله مالا تعلمون} فيه أربعة أقوال:
أحدها: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنّا سنسجد له، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أعلم من سلامة يوسف مالا تعلمون.
قال ابن السائب: وذلك أن ملك الموت أتاه، فقال له يعقوب: هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا.
والثالث: أعلم من رحمة الله وقدرته مالا تعلمون، قاله عطاء.
والرابع: أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز، طمع أن يكون هو يوسف، قاله السدي، قال: ولذلك قال لهم: {اذهبوا فتحسسوا}.
وقال وهب بن منبه: لما قال له ملك الموت: ما قبضت روح يوسف، تباشر عند ذلك، ثم أصبح، فقال لبنيه: {اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه}.
قال أبو عبيدة: {تحسسوا} أي: تخبَّروا والتمِسوا في المظانّ.
فإن قيل: كيف قال: {من يوسف} والغالب أن يقال: تحسست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أن المعنى: عن يوسف، ولكن نابت عنها: {من} كما تقول العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون عنه.
والثاني: أن: {مِن} أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسَّسُوا خبرًا من أخبار يوسف.
قوله تعالى: {ولا تيأسوا من رَوْحِ الله} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: من رحمة الله، قاله ابن عباس، والضحاك.
والثاني: من فرج الله، قاله ابن زيد.
والثالث: من توسعة الله، حكاه ابن القاسم.
قال الأصمعي: الروح: الاستراحة من غم القلب.
وقال أهل المعاني: لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله،: {إِنه لاييأس من رَوْح الله إِلا القوم الكافرون} لأن المؤمن يرجو الله في الشدائد.
قوله تعالى: {فلما دخلوا عليه} في الكلام محذوف.
تقديره: فخرجوا إِلى مصر، فدخلوا على يوسف، ف: {قالوا يا أيها العزيز} وكانوا يسمُّون ملكهم بذلك،: {مسَّنا وأهلنا الضرُّ} يعنون الفقر والحاجة: {وجئنا ببضاعة مزجاة}.
وفي ماهية تلك البضاعة سبعة أقوال:
أحدها: أنها كانت دراهم، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنها كانت متاعًا رثًّا كالحبل والغرارة، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس.
والثالث: كانت أَقِطًا قاله الحسن.
والرابع: كانت نعالًا وأدَمًا، رواه جويبر عن الضحاك.
والخامس: كانت سويق المُقْل، روي عن الضحاك أيضًا.
والسادس: حبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح.
والسابع: كانت صوفًا وشيئًا من سمن، قاله عبد الله بن الحارث.
وفي المزجاة خمسة أقوال:
أحدها: أنها القليلة.
روى العوفي عن ابن عباس قال: دراهم غير طائلة، وبه قال مجاهد، وابن إِسحاق، وابن قتيبة.
قال الزجاج: تأويله في اللغة أن التزجية: الشيء الذي يدافَع به، يقال: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، فالمعنى: جئنا ببضاعة إِنما ندافع بها ونتقوَّت، وليست مما يُتَّسع به، قال الشاعر:
الوَاهِبُ المائَةَ الهِجَانَ وَعَبْدَهَا ** عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَهَا أَطْفَالَهَا

أي: تدفع أطفالها.
والثاني: أنها الرديئة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
قال أبو عبيدة: إِنما قيل للرديئة: مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإِزجاء، والإِزجاء عند العرب: السَّوق والدفع، وأنشد:
لِيَبْكِ على مِلحانَ ضيفٌ مُدفَّع ** وَأَرْمَلَةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أَرْمَلاَ

أي: تسوقه.
والثالث: الكاسدة، رواه الضحاك أيضًا عن ابن عباس.
والرابع: الرثّة، وهي المتاع الخَلَق، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس.
والخامس: الناقصة، رواه أبو حصين عن عكرمة.
قوله تعالى: {فأوف لنا الكيل} أي: أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا.
قوله تعالى: {وتصدق علينا} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: تصدَّق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير، والسدي.
قال ابن الأنباري: كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدُّق، وليس به.
والثاني: بردِّ أخينا، قال ابن جريج.
قال: وذلك أنهم كانوا أنبياء، والصَّدَقَةُ لا تحل للأنبياء.
والثالث: وتصدَّق علينا بالزيادة على حقِّنا، قاله ابن عيينة، وذهب إِلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى بن الفراء.
قوله تعالى: {إِن الله يجزي المتصدقين} أي: بالثواب.
قال الضحاك: لم يقولوا: إِن الله يجزيك إِن تصدقت علينا، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن.
قوله تعالى: {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه} في سبب قوله لهم هذا، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخرج إِليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر، وفي آخر الكتاب: وكتب يهوذا فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا: هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبدٍ كان لنا، فقال يوسف عند ذلك: إِنكم تستحقون العقوبة، وأمر بهم ليُقتَلوا، فقالوا: إِن كنت فاعلًا، فاذهب بأمتعتنا إِلى يعقوب، ثم أقبل يهوذا على بعض إِخوته، وقال: قد كان أبونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده، فكيف به إِذا أُخبر بهُلكنا أجمعين؟ فرقَّ يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره، وقال لهم هذا القول، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
الثاني: أنهم لما قالوا: {مسَّنا وأهلنا الضرُّ} أدركته الرحمة، فقال لهم هذا، قاله ابن إِسحاق.
والثالث: أن يعقوب كتب إِليه كتابًا: إِن رددتَ ولدي، وإِلا دعوتُ عليك دعوةً تدرك السابعَ من ولدك، فبكى، وقال لهم هذا.